الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين **
وهو الإيمان بالله(1)............................................................... (1) هذه العقيدة أصلها لنا النبي صلى الله عليه وسلم في جواب جبريل حين سأل النبي صلى الله عليه وسلم: ما الإسلام؟ أما الإيمان؟ ما الإحسان؟ متى الساعة؟ فالإيمان ـ قال له ـ: "الإيمان بالله": الإيمان في اللغة: يقول كثير من الناس: إنه التصديق، فصدقت وآمنت معناهما لغة واحد، وقد سبق لنا في التفسير أن هذا القول لا يصح بل الإيمان في اللغة: الإقرار بالشيء عن تصديق به، بدليل أنك تقول: آمنت بكذا وأقررت بكذا وصدقت فلانا ولا تقول: آمنت فلاناً. إذا فالإيمان يتضمن معنى زائداً على مجرد التصديق، وهو الإقرار والاعتراف المستلزم للقبول للأخبار والإذعان للأحكام، هذا الإيمان، أما مجرد أن تؤمن بأن الله موجود، فهذا ليس بإيمان، حتى يكون هذا الإيمان مستلزما للقبول في الأخبار والإذعان في الأحكام، وإلا، فليس إيماناً. والإيمان بالله يتضمن أربعة أمور: 1- الإيمان بوجوده سبحانه وتعالى. 2- الإيمان بربوبيته، أي: الانفراد بالربوبية. 3- الإيمان بانفراده بالألوهية. 4- الإيمان بأسمائه وصفاته. لا يمكن أن يتحقق الإيمان إلا بذلك. فمن لم يؤمن بوجود الله، فليس بمؤمن، ومن آمن بوجود الله لا بانفراده بالربوبية، فليس بمؤمن، ومن آمن بالله وانفراده بالربوبية، فليس بمؤمن، ومن آمن بالله وانفراده بالربوبية والألوهية لكن لم يؤمن بأسمائه وصفاته، فليس بمؤمن، وإن كان الأخير فيه من يسلب عنه الإيمان بالكلية وفيه من يسلب عنه كمال الإيمان. الإيمان بوجوده: إذا قال قائل: ما الدليل على وجود الله عز وجل؟ قلنا: الدليل على وجود الله: العقل، والحس، والشرع. ثلاثة كلها تدل على وجود الله، وإن شئت، فزد: الفطرة، فتكون الدلائل على وجود الله أربعة: العقل، والحس، والفطرة، والشرع. وأخرنا الشرع، لا لأنه لا يستحق التقديم، لكن لأننا نخاطب من لا يؤمن بالشرع. ـ فأما دلالة العقل، فنقول: هل وجود هذه الكائنات بنفسها، أو وجدت هكذا صدفة؟ فإن قلت: وجدت بنفسها، فمستحيل عقلاً ما دامت هي معدومة؟ كيف تكون موجودة وهي معدومة؟! المعدوم ليس بشيء حتى يوجد، إذاً لا يمكن أن توجد نفسها بنفسها وإن قلت: وجدت صدفة، فنقول: هذا يستحيل أيضاً، فأنت أيها الجاحد، هل ما أنتج من الطائرات والصواريخ والسيارات والآلات بأنواعها، هل وجد هذا صدفة؟! فيقول: لا يمكن أن يكون. فكذلك هذه الأطيار والجبال والشمس والقمر والنجوم والشجر والجمر والرمال والبحار وغير ذلك لا يمكن أن توجد صدفة أبداً. ويقال: إن طائفة من السمنية جاؤوا إلى أبي حنيفة رحمه الله، وهم من أهل الهند، فناظروه في إثبات الخالق عز وجل، وكان أبو حنيفة من أذكى العلماء فوعدهم أن يأتوا بعد يوم أو يومين، فجاؤوا، قالوا: ماذا قلت؟ أنا أفكر في سفينة مملوءة من البضائع والأرزاق جاءت تشق عباب الماء حتى أرسلت في الميناء ونزلت الحمولة وذهبت، وليس فيها قائد ولا حمالون. قالوا: تفكر بهذا؟! قال: نعم. قالوا: إذاً ليس لك عقل! هل يعقل أن سفينة تأتي بدون قائد وتنزل وتنصرف؟! هذا ليس معقول! قال: كيف لا تعقلون هذا، وتعقلون أن هذه السماوات والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب والناس كلها بدون صانع؟ فعرفوا أن الرجل خاطبهم بعقولهم، وعجزوا عن جوابه هذا أو معناه. وقيل لأعرابي من البادية: بم عرفت ربك؟ فقال: الأثر يدل على المسير، والبعرة تدل على البعير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج، ألا تدل على السميع البصير؟ ولهذا قال الله عز وجل: فحينئذ يكون العقل دالاً دلالة قطعية على وجود الله. - وأما دلالة الحس على وجود الله، فإن الإنسان يدعو الله عز وجل، يقول: يا رب! ويدعو بالشيء، ثم يستجاب له فيه، وهذه دلالة حسه، هو نفسه لم يدع إلا الله، واستجاب الله له، رأى ذلك رأي العين. وكذلك نحن نسمع عمن سبق وعمن في عصرنا، أن الله استجاب الله. فالأعرابي الذي دخل والرسول صلى الله عليه وسلم يخطب الناس يوم الجمعة قال: هلكت الأموال، وانقطعت السبل فادع الله يغيثنا قال أنس: وفي القرآن كثير من هذا، مثل: {وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين (83) فاستجبنا له} [الأنبياء: 83-84] وغير ذلك من الآيات. - وأما دلالة الفطرة، فإن كثيراً من الناس الذين لم تنحرف فطرهم يؤمنون بوجود الله، حتى البهائم العجم تؤمن بوود الله، وقصة النملة التي رويت عن سليمان عليه الصلاة والسلام، خرج يستسقي، فوجد نملة مستلقية على ظهرها رافعة قوائمها نحو السماء، تقول: اللهم أنا خلق من خلقك، فلا تمنع عنا سقياك. فقال: ارجعوا، فقد سقيتم بدعوة غيركم، فالفطر مجبولة على معرفة الله عز وجل وتوحيده. وقد أشار الله تعالى إلى ذلك في قوله: هذه أدلة أربعة تدل على وجود الله سبحانه وتعالى. - وأما دلالة الشرع، فلأن ما جاءت به الرسل من شرائع الله تعالى المتضمنة لجميع ما يصلح الخلق يدل على أن الذي أرسل بها رب رحيم حكيم، ولا سيما هذا القرآن المجيد الذي أعجز البشر والجن أن يأتوا بمثله.
وملائكته(1)......................................................................... (1) الملائكة جمع: ملاك، وأصل ملاك: مألك، لأنه من الألوكة، والألوكة في اللغة الرسالة، قال الله تعالى: فالملائكة عالم غيبي، خلقهم الله عز وجل من نور، وعلهم طائعين له متذللين له، ولكل منهم وظائف خصه الله بها، ونعلم من وظائفهم: أولاً: جبريل: موكل بالوحي، ينزل به من الله تعالى إلى الرسل. ثانياً: إسرافيل: موكل بالوحي، ينزل به من الله تعالى إلى الرسل. ثالثاً: ميكائيل: موكل بالقطر والنبات. وهؤلاء الثلاثة كلهم موكلون بما فيه حياة، فجبريل موكل بالوحي وفيه حياة القلوب، وميكائيل بالقطر والنبات وفيه حياة الأرض، وإسرافيل بنفخ الصور وفيه حياة الأجساد يوم المعاد. ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوسل بربوبية الله لهم في دعاء الاستفتاح في صلاة الليل، فيقول: كذلك نعلم أن منهم من وكل بقبض أرواح بني آدم، أو بقبض روح كل ذي روح وهم: ملك الموت وأعوانه ولا يسمى عزرائيل، لأنه لم يثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام أن اسمه هذا. قال تعالى: ولا منافاة بين هذه الآيات الثلاث، فإن الملائكة تقبض الروح، فإن ملك الموت إذا أخرجها من البدن تكون عنده ملائكة، إن كان الرجل من أهل الجنة، فيكون معهم حنوط من الجنة، وكفن من الجنة، يأخذون هذه الروح الطيبة، ويجعلونها في هذا الكفن، ويصعدون بها إلى الله عز وجل حتى تقف بين يدي الله عز وجل، ثم يقول اكتبوا كتاب عبدي في عليين وأعيدوه إلى الأرض، فترجع الروح إلى الجسد من أجل الاختبار: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ وإن كان الميت غير مؤمن والعياذ بالله، فإنه ينزل ملائكة معهم كفن من النار وحنوط من النار، يأخذون الروح، ويجعلونها في هذا الكفن، ثم يصعدون بها إلى السماء، فتغلق أبواب السماء دونها وتطرح إلى الأرض، قال الله تعالى: هؤلاء موكلون بقبض الروح من ملك الموت إذا قبضها، وملك الموت هو الذي يباشر قبضها، فلا منافاة إذن، والذي يأمر بذلك هو الله، فيكون في الحقيقة هو المتوفي. ومنهم ملائكة سياحون في الأرض، يلتمسون حلق الذكر، إذا وجدوا حلقة العلم والذكر، جلسوا (5) وكذلك هناك ملائكة يكتبون أعمال الإنسان: دخل أحد أصحاب الإمام أحمد عليه وهو مريض رحمه الله فوجده يئن من المرض، فقال له: يا أبا عبد الله! تئن، وقد قال طاووس: إن الملك يكتب حتى أنين المريض، لأن الله يقول: ومنهم أيضاً ملائكة يتعاقبون على بني آدم في الليل والنهار، ومنهم ملائكة ركع وسجد لله في السماء، قال النبي عليه الصلاة والسلام: ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم في البيت المعمور الذي مر به في ليلة المعراج، قال: ومنهم ملائكة موكلون بالجنة وموكلون بالنار، فخازن النار اسمه مالك يقول أهل النار: المهم: أنه يجب علينا أن نؤمن بالملائكة. وكيف الإيمان بالملائكة؟ نؤمن بأنهم عالم غيبي لا يشاهدون، وقد يشاهدون، إنما الأصل أنهم عالم غيبي مخلوقون من نور مكلفون بما كلفهم الله به من العبادات وهم خاضعون لله عز وجل أتم الخضوع، كذلك نؤمن بأسماء من علمنا بأسمائهم ونؤمن بوظائف من علمنا بوظائفهم ويجب علينا أن نؤمن بذلك على ما علمنا. وهم أجساد، بدليل قوله تعالى: إذا قال قائل: هل لهم عقول؟ نقولك هل لك عقل؟ ما يسأل عن هذا إلا رجل مجنون، فقد قال الله تعالى:
وكتبه(1).................................................................. (1) أي كتب الله التي أنزلها مع الرسل. ولكل رسول كتاب، قال الله تعالى:
ورسله(1).................................................................... (1) أي: رسل الله وهم الذين أوحى الله اليسهم بالشرائع وأمرهم بتبليغها، وأولهم نوح وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم. الدليل على أن أولهم نوح: قوله تعالى: إذاً من القرآن ثلاثة أدلة تدل على أن نوحا أول الرسل ومن السنة ما ثبت في حديث الشفاعة: " أما آدم عليه الصلاة والسلام، فهو نبي، وليس برسول. وأما إدريس، فذهب كثير من المؤرخين أو أكثرهم وبعض المفسدين أيضاً إلى أنه قبل نوح، وأنه من أجداده لكن هذا قول ضعيف جداً والقرآن والسنة ترده والصواب ما ذكرنا. وآخرهم محمد عليه الصلاة والسلام، لقوله تعالى: فإن قلت: عيسى عليه الصلاة والسلام ينزل في آخر الزمان (10) نقول: هو لا ينزل بشريعة جديد، وإنما يحكم بشريعة النبي صلى الله عليه وسلم. فإذا قال قائل: من المتفق عليه أن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر، وعيسى يحكم بشريعة النبي صلى الله عليه وسلم ، فيكون من أتباعه، فكيف يصح قولنا: إن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر؟ فالجواب: أحد ثلاثة وجود: أولها: أن عيسى عليه الصلاة والسلام رسول مستقل من أولي العزم ولا يخطر بالبال المقارنة بينه وبين الواحد من هذه الأمة، فكيف بالمفاضلة؟! وعلى هذا يسقط هذا الإيراد من أصله، لأنه من التنطع، وقد هلك المتنطعون، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم(11) الثاني: أن نقول: هو خير الأمة إلا عيسى. الثالث: أن نقول: إن عيسى ليس من الأمة، ولا يصح أن نقول: إنه من أمته، وهو سابق عليه، لكنه من أتباعه إذا نزل، لأن شريعة النبي صلى الله عليه وسلم باقية إلى يوم القيامة. فإن قال قائل: كيف يكون تابعاً، وهو يقتل الخنزير، ويكسر الصليب، ولا يقبل إلا الإسلام مع أن الإسلام يقر أهل الكتاب الجزية؟!. قلنا: إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بذلك إقرار له، فتكون من شرعه ويكون نسخاً لما سبق من حكم الإسلام الأول.
والبعث بعد الموت(1)....................................................... (1) البعث بمعنى الإخراج، يعني: إخراج الناس من قبورهم بعد موتهم. وهذا من معتقد أهل السنة والجماعة. وهذا ثابت بالكتاب والسنة وإجماع المسلمين، بل إجماع اليهود والنصارى، حيث يقرون بأن هناك يوماً يبعث الناس فيه ويجازون: - أما القرآن، فيقول الله عز وجل: - وأما في السنة، فجاءت الأحاديث المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك. - وأجمع المسلمون على هذا إجماعاً قطعياً، وأن الناس سيبعثون يوم القيامة ويلاقون ربهم ويجازون بأعمالهم، هذا البعث الذي اتفقت عليه الأديان السماوية وكل متدين بدين هو أحد أركان الإيمان الستة وهو من معتقدات أهل السنة والجماعة ولا ينكره أحد ممن ينتسب إلى ملة أبداً.
والإيمان بالقدر(1).............................................................. (1) هذا الركن السادس: الإيمان بالقدر خيره وشره. القدر هو: "تقدير الله عز وجل للأشياء". وقد كتب الله مقادير كل شيء قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة (12) خيره وشره(1)........................................................... (1) وقوله: "خيره وشره": أما وصف القدر بالخير، فالأمر فيه ظاهر. وأما وصف القدر بالشر، فالمراد به شر المقدور لا شر القدر الذي هو فعل الله، فإن فعل الله عز وجل ليس فيه شر، كل أفعاله خير وحكمة، ولكن الشر في مفعولاته ومقدوراته، فالشر هنا باعتبار المقدور والمفعول، أما باعتبار الفعل، فلا، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: فمثلاً، نحن نجد في المخلوقات المقدورات شراً، ففيها الحيات والعقارب والسباع والأمراض والفقر والجدب وما أشبه ذلك، وكل هذه بالنسبة للإنسان شر، لأنها لا تلائمه، وفيها أيضاً المعاصي والفجور والكفر والفسوق والقتل وغير ذلك، وكل هذه شر، لكن باعتبار نسبتها غالى الله هي خير، لأن الله عز وجل لم يقدرها إلا لحكمة بالغة عظيمة، عرفها من عرفها وجهلها من جهلها. وعلى هذا يجب أن تعرف أن الشر الذي وصف به القدر إنما هو باعتبار المقدورات والمفعولات، لا باعتبار التقدير الذي هو تقدير الله وفعله. ثم اعلم أيضاً أن هذا المفعول الذي هو شر قد يكون شراً في نفسه، لكنه خير من جهة أخرى، قال الله تعالى: ولنفض حد الزاني مثلاً إذا كان غير محصن أن يجلد مئة جلدة ويسفر عن البلد لمدة عام، هذا لا شك أنه شر بالنسبة إليه، لأنه لا يلائمه، لكنه خير من وجه آخر لأنه يكون كفارة له، فهذا خير، لأن عقوبة الدنيا أهون من عقوبة الآخرة، فهو خير له، ومن خيره أنه ردع لغيره ونكال لغيره، فإن غيره لو هم أن يزني وهو يعلم أنه سيفعل به مثل ما فعل بهذا، ارتدع، بل قد يكون خيراً له هو أيضاً، باعتبار أنه لن يعود إلى مثل هذا العمل الذي سبب له هذا الشيء. أما بالنسبة للأمور الكونية القدرية، فهناك شيء يكون شراً باعتباره مقدوراً، كالمرض مثلاً، فالإنسان إذا مرض، فلا شك أن المرض شر بالنسبة له، لكن فيه خير له في الواقع، وخيره تكفير الذنوب، قد يكون الإنسان عليه ذنوب ما كفرها الاستغفار والتوبة، لوجود مانع، مثلاً لعدم صدق نيته مع الله عز وجل فتأتي هذه الأمراض والعقوبات، فتكفر هذه الذنوب. ومن خيره أن الإنسان لا يعرف قدر نعمة الله عليه بالصحة، إلا إذا مرض، نحن الآن أصحاء ولا ندري ما قدر الصحة لكن إذا حصل المرض، عرفنا قدر الصحة فالصحة تاج على رؤوس الأصحاء لا يعرفها إلا المرضى.. هذا أيضاً خير، وهو أنك تعرف قدر النعمة. ومن خيره أنه قد يكون في هذا المرض أشياء تقتل جراثيم في البدن لا يقتلها إلا المرض، يقول الأطباء: بعض الأمراض المعينة تقتل هذه الجراثيم التي في الجسد وأنك لا تدري. فالحاصل أننا نقول: أولاً: الشر الذي وصف به القدر هو شر بالنسبة لمقدور الله، أما تقدير الله، فكله خير والدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم ثانياً: أن الشر الذي في المقدور ليس شراً محضاً بل هذا الشر قد ينتج عنه أمور هي خير، فتكون الشرية بالنسبة إليه أمراً إضافياً. هذا، وسيتكلم المؤلف رحمه الله على القدر بكلام موسع يبين درجاته عند أهل السنة.
ومن الإيمان بالله(1): الإيمان بما وصف به نفسه(2).................................. (1) (من): هنا للتبعيض، لأننا ذكرنا أن الإيمان بالله يتضمن أربعة أمور: الإيمان بوجوده، وانفراده بالربوبية، وبالألوهية، وبالأسماء والصفات، يعني: بعض الإيمان بالله: الإيمان بما وصف به نفسه. (2) قوله: "بما وصف به نفسه" ينبغي أن يقال: وسمى به نفسه لكن المؤلف رحمه الله ذكر الصفة فقط: إما لأنه ما من اسم إلا ويتضمن صفة، أو لأن الخلاف في الأسماء خلاف ضعيف، لم ينكره إلى غلاة الجهمية والمعتزلة، فالمعتزلة يثبتون الأسماء، والأشاعرة والماتريدية يثبتون الأسماء، لكن يخالفون أهل السنة في أكثر الصفات. فنحن الآن نقول: لماذا اقتصر المؤلف على "ما وصف الله به نفسه"؟ نقول: لأحد أمرين: إما لأن كل اسم يتضمن صفة، وإما لأن الخلاف في الأسماء قليل بالنسبة للمنتسبين للإسلام. في كتابه(1).......................................................................... (1) "في كتابه": (كتابه) يعني: القرآن، وسماه الله تعالى كتاباً لأنه مكتوب في اللوح المحفوظ، ومكتوب في الصحف التي بأيدي السفرة الكرام البررة، ومكتوب كذلك بين الناس يكتبونه في المصاحف، فهو كتاب بمعنى مكتوب، وأضافه الله إليه، لأنه كلامه سبحانه وتعالى، فهذا القرآن كلام الله، تكلم به حقيقة، فكل حرف منه، فإن الله قد تكلم به وفي هذه الجملة مباحث:
المبحث الأول: أن من الإيمان بالله الإيمان بما وصف به نفسه: ووجه ذلك أن الإيمان بالله ـ كما سبق ـ يتضمن الإيمان بأسمائه وصفاته، فإنه ذات الله تسمى بأسماء وتوصف بأوصاف، ووجود ذات مجردة عن الأوصاف أمر مستحيل، فلا يمكن أن توجد ذات مجردة عن الأوصاف أبداً، وقد يفرض الذهن أن هناك ذاتاً مجردة من الصفات لكن الفرض ليس كالأمر الواقع، أي أن المفروض ليس كالمشهود، فلا يوجد في الخارج ـ أي: في الواقع المشاهد ـ ذات ليس لها صفات أبداً. فالذهن قد يفرض مثلاً شيئاً له ألف عين، في كل ألف عين ألف سواد وألف بياض، وله ألف رجل، في كل رجل ألف أصبع، في كل أصبع ألف ظفر، وله ملايين الشعر، في كل شعرة ملايين الشعر.... وهكذا يفرضه وإن لم يكن له واقع، لكن الشيء الواقع لا يمكن أن يوجد شيء بدون صفة. لهذا، كان الإيمان بصفات الله من الإيمان بالله، لو لم يكن من صفات الله إلا أنه موجود واجب الوجود، وهذا باتفاق الناس، وعلى هذا، فلا بد أن يكون له صفة.
المبحث الثاني: أن صفات الله عز وجل من الأمور الغيبية، والواجب على الإنسان نحو الأمور الغيبية: أن يؤمن بها على ما جاءت دون أن يرجع إلى شيء سوى النصوص. قال الإمام أحمد: "لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله، لا يتجاوز القرآن والحديث". يعني أننا لا نصف الله إلا بما وصف به نفسه في كتابه، أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم. ويدل لذلك القرآن والعقل: ففي القرآن: يقول الله عز وجل: ويقول الله عز وجل: وأما الدليل العقلي، فلأن صفات الله عز وجل من الأمور الغيبية ولا يمكن في الأمور الغيبية أن يدركها العقل، وحينئذ لا نصف الله بما لم يصف به نفسه، ولا نكيف صفاته، لأن ذلك غير ممكن. نحن الآن لا تدرك ما وصف الله به نعيم الجنة من حيث الحقيقة مع أنه مخلوق، في الجنة فاكهة ونخل ورمان وسرر وأكواب وحور ونحن لا ندرك حقيقة هذه الأشياء، ولو قيل: صفها لنا، لا نستطيع وصفها، لقوله تعالى: فإذا كان هذا في المخلوق الذي وصف بصفات معلومة المعنى ولا تعلم حقيقتها، فكيف بالخالق؟! مثال آخر: الإنسان فيه روح، لا يحيا إلا بها، لولا أن الروح في بدنه ما حيي ولا يستطيع أن يصف الروح لو قيل له: ما هذه الروح التي بك؟ ما هي التي لو نزعت منك، صرت جثة، وإذا بقيت فأنت إنسان تعقل وتفهم وتدرك؟ لجلس ينظر ويفكر فلا يستطيع أن يصفها أبداً مع أنها قريبة، منه، في نفسه وبين جنبيه، ويعجز عن إدراكها مع أنها حقيقة، يعني: شيء يرى، كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام بـ
المبحث الثالث: أننا لا نصف الله تعالى بما لم يصف به نفسه. ودليل ذلك أيضاً من السمع والعقل: ذكرنا من السمع آيتين. وأما من العقل، فقلنا: إن هذا أمر غيبي، لا يمكن إدراكه بالعقل، وضربنا لذلك مثلين.
المبحث الرابع: وجوب إجراء النصوص الواردة في الكتاب والسنة على ظاهرها، لا نتعداها. مثال ذلك: لما وصف الله نفسه بأن له عيناً، هل نقول: المراد بالعين الرؤية لا حقيقة العين؟ لو قلنا ذلك، ما وصفنا الله بما وصف به نفسه. ولما وصف الله نفسه بأن له يدين:
المبحث الخامس: عموم كلام المؤلف يشمل كل ما وصف الله به نفسه من الصفات الذاتية المعنوية والخبرية والصفات الفعلية. فالصفات الذاتية هي التي لم يزل ولا يزال متصفاً بها وهي نوعان: معنوية وخبرية: فالمعنوية، مثل: الحياة، والعلم، القدرة، والحكمة... وما أشبه ذلك، وهذا على سبيل التمثيل لا الحصر. والخبرية، مثل: اليدين، والوجه، والعينين... وما أشبه ذلك مما سماه، نظيره أبعاض وأجزاء لنا. فالله تعالى لم يزل له يدان ووجه وعينان لم يحدث له شيء من ذلك بعد أن لم يكن، ولن ينفك عن شيء منه، كما أن الله لم يزل حياً ولا يزال حياً، لم يزل عالماً ولا يزال عالماً، ولم يزل قادراً ولا يزال قادراً... وهكذا، يعنى ليس حياته تتجدد، ولا قدرته تتجدد، ولا سمعه يتجدد بل هو موصوف بهذا أزلاً وأبداً، وتجدد المسموع لا يستلزم تجدد السمع، فأنا مثلاً عندما أسمع الأذان الآن فهذا ليس معناه أنه حدث لي سمع جديد عند سماع الأذان بل هو منذ خلقه الله في لكن المسموع يتجدد وهذا لا أثر له في الصفة. واصطلح العلماء رحمهم الله على أن يسموها الصفات الذاتية، قالوا: لأنها ملازمة للذات، لا تنفك عنها. والصفات الفعلية هي الصفات المتعلقة بمشيئته، وهي نوعان: صفات لها سبب معلوم، مثل: الرضى، فالله عز وجل إذا وجد سبب الرضى، رضي، كما قال تعالى: وصفات ليس لها سبب معلوم، مثل: النزول إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر. ومن الصفات ما هو صفة ذاتية وفعلية باعتباري، فالكلام صفة فعلية باعتبار آحاده لكن باعتبار أصله صفة ذاتية، لأن الله لم يزل ولا يزال متكلماً لكنه يتكلم بما شاء متى شاء، كما سيأتي في بحث الكلام إن شاء الله تعال. اصطلح العلماء رحمهم الله أن يسموا هذه الصفات الصفات الفعلية، لأنها من فعله سبحانه وتعالى. ولها أدلة كثيرة من القرآن، مثل: وليس في إثباتها لله تعالى نقص بوجه من الوجوه بل هذا من كماله أن يكون فاعلاً لما يريد. وأولئك القوم المحرفون يقولون: إثباتها من النقص! ولهذا ينكرون جميع الصفات الفعلية، يقولون: لا يجيء ولا يرضى، ولا يسخط ولا يكره ولا يحب.. ينكرون كل هذه، بدعوى أن هذه حادثة والحادث لا يقوم إلا بحادث وهذا باطل، لأنه في مقابلة النص، وهو باطل بنفسه، فإنه لا يلزم من حدوث الفعل حدوث الفاعل.
المبحث السادس: أن العقل لا مدخل له في باب الأسماء والصفات: لأن مدار إثبات الأسماء والصفات أو نفيها على السمع، فعقولنا لا تحكم على الله أبداً، فالمدار إذاً على السمع، خلافاً للأشعرية والمعتزلة والجهمية وغيرهم من أهل التعطيل، الذين جعلوا المدار في إثبات الصفات أو نفيها على العقل، فقالوا: ما اقتضى العقل إثباته، أثبتناه، سواء أثبته الله لنفسه أم لا! وما اقتضى نفيه، نفيناه، وإن أثبته الله! وما لا يقتضي العقل إثباته ولا نفيه، فأكثرهم نفاه، وقال: إن دلالة العقل إيجابية، فإن أوجب الصفة، أثبتناها، وإن لم يوجبها، نفيناها! ومنها من توقف فيه، فلا يثبتها لأن العقل لا يثبتها لكن لا ينكرها، لأن العقل لا ينفيها، ويقول: نتوقف! لأن دلالة العقل عند هذا سلبية، إذا لم يوجب، يتوقف ولم ينف! فصار هؤلاء يحكمون العقل فيما يجب أو يمتنع على الله عز وجل. فيتفرغ على هذا: ما اقتضى العقل وصف الله به، وصف الله به وإن لم يكن في الكتاب والسنة، وما اقتضى العقل نفيه عن الله، نفوه، وإن كان في الكتاب والسنة. ولهذا يقولون: ليس لله عين، ولا وجه، ولا له يد، ولا استوى على العرش، ولا ينزل إلى السماء الدنيا لكنهم يحرفون ويسمون تحريفهم تأويلاً ولو أنكروا إنكار جحد، لكفروا، لأنهم كذبوا لكنهم ينكرون إنكار ما يسمونه تأويلاً وهو عندنا تحريف. والحاصل أن العقل لا مجال له في باب أسماء الله وصفاته فإن قلت: قولك هذا يناقض القرآن، لأن الله يقول: فالجواب أن نقول: إن العقل يدرك ما يجب لله سبحانه وتعالى ويمتنع عليه على سبيل الإجمال لا على سبيل التفصيل، فمثلاً: العقل يدرك بأن الرب لا بد أن يكون كامل الصفات، لكن هذا لا يعني أن العقل يثبت كل صفة بعينها أو ينفيها لكن يثبت أو ينفي على سبيل العموم أن الرب لا بد أن يكون كامل الصفات سالماً من النقص. فمثلاً: يدرك بأنه لابد أن يكون الرب سميعاً بصيراً، قال إبراهيم: ولابد أن يكون خالقاً، لأن الله قال: يدرك هذا ويدرك بأن الله سبحانه وتعالى يمتنع أن يكون حادثاً بعد العدم، لأنه نقص، ولقوله تعالى محتجاً على هؤلاء الذين يعبدون الأصنام: العقل أيضاً يدرك بأن كل صفة نقص فهي ممتنعة على الله، لأن الرب لابد أن يكون كاملاً فيدرك بأن الله عز وجل مسلوب عنه الحجز، لأنه صفة نقص، إذا كان الرب عاجزاً وعصي وأراد أن يعاقبل الذي عصاه وهو عاجز، فلا يمكن! إذاً، العقل يدرك بأن العجز لا يمكن أن يوصف الله به، والعمى كذلك والصم كذلك والجهل كذلك.... وهكذا على سبيل العموم ندرك ذلك، لكن على سبيل التفصيل لا يمكن أن ندركه فنتوقف فيه على السمع. سؤال: هل كل ما هو كمال فينا يكون كمالاً في حق الله، وهل كل ما هو نقص فينا يكون نقصاً في حق الله؟ الجواب: لا، لأن المقياس في الكمال والنقص ليس باعتبار ما يضاف للإنسان، لظهور الفق بين الخالق والمخلوق، لكن باعتبار الصفة من حيث هي صفة، فكل صفة كمال، فهي ثابته لله سبحانه وتعالى. فالأكل والشرب بالنسبة للخالق نقص، لأن سببهما الحاجة، والله تعالى غني عما سواه، لكن هما بالنسبة للمخلوق كمال ولهذا، إذا كان الإنسان لا يأكل، فلا بد أن يكون عليلاً بمرض أو نحوه هذا نقص. والنوم بالنسبة للخالق نقص، وللمخلوق كمال، فظهر الفرق. التكبر كمال للخالق ونقص للمخلوق، لأنه لا يتم الجلال والعظمة إلا بالتكبر حتى تكون السيطرة كاملة ولا أحد ينازعه.. ولهذا توعد الله تعالى من ينازعه الكبرياء والعظمة، قال: فالمهم أنه ليس كل كمال في المخلوق يكون كمالاً في الخالق ولا كل نقص في المخلوق يكون نقصاً في الخالق إذا كان الكمال أو النقص اعتبارياً.
هذه ستة مباحث تحت قوله: "ما وصف به نفسه" وكلها مباحث هامة، وقدمناها بين يدي العقيدة، لأنه سينبني عليها ما يأتي إن شاء الله تعالى.
وبما وصف به رسوله(1)............................................................ (1) قوله: "وبما وصفه به رسوله": ووصف رسول الله صلى الله عليه وسلم لربه ينقسم إلى ثلاثة أقسام: إما بالقول، أو بالفعل، أو بالإقرار. أ-أما القول ، مثل ب- وأما الفعل، فهو أقل من القول، مثل إشارته إلى السماء يستشهد الله على إقرار أمته بالبلاغ، وهذا في حجة الوداع في عرفة، خطب الناس، وقال: وغير ذلك من الأحاديث التي فيها فعل النبي عليه الصلاة والسلام إذا ذكر صفة من صفات الله. وأحياناً يذكر الرسول عليه الصلاة والسلام من صفات الله بالقول ويؤكدها بالفعل، وذلك حينما تلا قوله تعالى: وحينئذ نقول: إن إثبات الرسول عليه والسلام للصفات يكون بالقول ويكون بالفعل، مجتمعين ومنفردين. جـ- أما الإقرار، فهو قليل بالنسبة لما قبله، مثل: إقراره الجارية التي سألها: وكإقراره الحبر من اليهود الذي جاء وقال للرسول عليه الصلاة والسلام: إننا نجد أن الله يجعل السماوات على إصبع، والأرضين على إصبع والثرى على إصبع.. آخر الحديث، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم تصديقاً لقوله (24) إذا قال قائل: ما وجه وجوب الإيمان بما وصف الرسول به ربه أو: ما دليله؟ نقول: دليله قوله تعالى:
من غير تحريف(1).................................................................. (1) في هذه الجملة بيان صفة إيمان أهل السنة بصفات الله تعالى، فأهل السنة والجماعة يؤمنون بها إيماناً خالياً من هذه الأمور الأربعة: التحريف والتعطيل، والتكييف، والتمثيل. فالتحريف: التغيير وهو إما لفظي وإما معنوي، والغالب أن التحريف اللفظي لا يقع، وإذا وقع، فإنما يقع من جاهل، فالتحريف اللفظي يعني تغيير الشكل، فمثلاً: فلا تجد أحداً يقول: "الحمد لله رب العالمين" بفتح الدال، إلا إذا كان جاهلاً.. هذا الغالب! لكن التحريف المعنوي هو الذي وقع فيه كثير من الناس. فأهل السنة والجماعة إيمانهم بما وصف الله به نفسه خال من التحريف، يعني: تغيير اللفظ أو المعنى. وتغيير المعنى يسميه القائلون به تأويلاً ويسمون أنفسهم بأهل التأويل، لأجل أن يصبغوا هذا الكلام صبغة القبول، لأن التأويل لا تنفر منه النفوس ولا تكرهه، لكن ما ذهبوا إليه في الحقيقة تحريف، لأنه ليس عليه دليل صحيح، إلا أنهم لا يستطيعون أن يقولوا: تحريفاً! ولو قالوا: هذا تحريف، لأعلنوا على أنفسهم برفض كلامهم. ولهذا عبر المؤلف رحمه الله بالتحريف دون التأويل مع أن كثيراً ممن يتكلمون في هذا الباب يعبرون بنفي التأويل، يقولون: من غير تأويل، لكن ما عبر به المؤلف أولى لوجوه أربعة: الوجه الأول: أنه اللفظ الذي جاء به القرآن، فإن الله تعالى قال: الوجه الثاني: أنه أدل على الحال، وأقرب إلى العدل، فالمؤول بغير دليل ليس من العدل أن تسميه مؤولاً، بل العدل أن نصفه بما يستحق وهو أن يكون محرفاً. الوجه الثالث: أن التأويل بغير دليل باطل، يجب البعد عنه والتنفير منه، واستعمال التحريف فيه أبلغ تنفيراً من التأويل، لأن التحريف لا يقبله أحمد، لكن التأويل لين، تقبله النفس، وتستفصل عن معناه، أما التحريف، بمجرد ما نقول: هذا تحريف. ينفر الإنسان منه، إذا كان كذلك، فإن استعمال التحريف فيمن خالفوا طريق السلف أليق من استعمال التأويل. الوجه الرابع: أن التأويل ليس مذموماً كله، قال النبي عليه الصلاة والسلام: والتأويل ليس بمعنى العاقبة والمال، ويكون بمعنى صرف اللفظ عن ظاهره. (أ) يكون بمعنى التفسير، كثير من المفسرين عندما يفسرون الآية، يقولون: تأويل قوله تعالى كذا وكذا. ثم يذكرون المعنى والسمي التفسير تأويلاً، لأننا أولنا الكلام، أي: جعلناه يؤول إلى معناه وسمي التفسير تأويلاً، لأننا أولنا الكلام، أي: جعلناه يؤول إلى معناه المراد به. (ب) تأويل بمعنى: عاقبة الشيء، وهذا إن ورد في طلب، فتأويله فعله إن كان أمراً وتركه إن كان نهياً، وإن ورد في خبر، فتأويله وقوعه. مثاله في الخبر قوله تعالى ومنه قول يوسف لما خر له أبواه وإخوته سجداً قال: ومثاله في الطلب قول عائشة رضي الله عنها: (جـ) المعنى الثالث للتأويل: صرف اللفظ عن ظاهره وهذا النوع ينقسم إلى محمود ومذموم، فإن دل عليه دليل، فهو محمود النوع ويكون من القسم الأول، وهو التفسير، وإن لم يدل عليه دليل، فهو مذموم، ويكون من باب باب التحريف، وليس من باب التأويل. وهذا الثاني هو الذي درج عليه أهل التحريف في صفات الله عز وجل. مثاله قوله تعالى: فأما قوله تعالى وكذلك قوله تعالى: وكذلك قول أنس بن مالك: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء، قال: ولذلك قلنا: إن التعبير بالتحريف عن التأويل الذي ليس عليه دليل صحيح أولى، لأنه الذي جاء به القرآن، ولأنه ألصق بطريق المحرف، ولأنه أشد تنفيراً عن هذه الطريقة المخالفة لطريق السلف، ولأن التحريف كله مذموم، بخلاف التأويل، فإن منه ما يكون مذموماً ومحموداً، فيكون التعبير بالتحريف أولى من التعبير بالتأويل من أربعة أوجه.
ولا تعطيل(1)......................................................................... (1) التعطيل بمعنى التخلية والترك، كقوله تعالى: والمراد بالتعطيل: إنكار ما أثبت الله لنفسه من الأسماء والصفات، سواء كان كلياً أو جزئياً، وسواء كان ذلك بتحريف أو بجحود، هذا كله يسمى تعطيلاً. فأهل السنة والجماعة لا يعطلون أي اسم من أسماء الله، أو أي صفة من صفات الله ولا يجحدونها، بل يقرون بها إقراراً كاملاً. فإن قلت: ما الفرق بين التعطيل والتحريف؟ قلنا: التحريف في الدليل والتعطيل في المدلول، فمثلاً: إذا قال قائل: معنى قوله تعالى أهل السنة والجماعة يتبرءون من الطريقتين: الطريقة الأولى: التي هي تحريف اللفظ بتعطيل معناه الحقيقي المراد إلى معنى غير مراد. والطريقة الثانية: وهي طريقة أهل التفويض، فهم لا يفوضون المعنى كما يقول المفوضة بل يقولون: نحن نقول: {بل يداه}، أي: يداه الحقيقيتان {مبسوطتان}، وهما غير القوة والنعمة. فعقيدة أهل السنة والجماعة بريئة من التحريف ومن التعطيل. وبهذا تعرف ضلال أو كذب من قالوا: إن طريقة السلف هي التفويض، هؤلاء ضلوا إن قالوا ذلك عن جهل بطريقة السلف، وكذبوا إن قالوا ذلك عن عمد، أو نقول: كذبوا على الوجهين على لغة الحجاز، لأن الكذب عند الحجازيين بمعنى الخطأ. وعلى كل حال، لا شك أن الذين يقولون: إن مذهب أهل السنة هو التفويض، أنهم أخطأوا، لأن مذهب أهل السنة هو إثبات المعنى وتفويض الكيفية. وليعلم أن القول بالتفويض ـ كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ من شر أقوال أهل البدع والإلحاد! عندما يسمع الإنسان التفويض، يقول: هذا جيد، أسلم من هؤلاء وهؤلاء، لا أقول بمذهب السلف، ولا أقول بمذهب أهل التأويل، أسلك سبيلاً وسطاً وأسلم من هذا كله، وأقول: الله أعلم ولا ندري ما معناها. لكن يقول شيخ الإسلام: هذا من شر أقوال أهل البدع والإلحاد وصدق رحمه الله. وإذا تأملته وجدته تكذيباً للقرآن وتجهيلاً للرسول صلى الله عليه وسلم واستطالة للفلاسفة. تكذيب للقرآن، لأن الله يقول: إن هؤلاء يقولون: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يدري عن معاني القرآن فيما يتعلق بالأسماء والصفات وإذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام لا يدري، فغيره من باب أولى. وأعجب من ذلك يقولون: الرسول صلى الله عليه وسلم يتكلم في صفات الله، ولا يدري ما معناه يقول: وهل هناك قدح أعظم من هذا القدح بالرسول صلى الله عليه وسلم بل هذا من أكبر القدح رسول من عند الله ليبين للناس وهو لا يدري ما معنى آيات الصفات وأحاديثها وهو يتكلم بالكلام ولا يدري معنى ذلك كله. فهذان وجهان: تكذيب بالقرآن وتجهيل الرسول. وفيه فتح الباب للزنادقة الذين تطاولوا على أهل التفويض، وقال: أنتم لا تعرفون شيئاً، بل نحن الذين نعرف، وأخذوا يفسرون القرآن بغير ما أراد الله، وقالوا: كوننا نثبت معاني للنصوص خير من كوننا أميين لا نعرف شيئاً وذهبوا يتكلمون بما يريدون من معنى كلام الله وصفاته!! ولا يستطيع أهل التفويض أن يردوا عليهم، لأنهم يقولون: نحن لا نعلم ماذا أراد الله، فجائز أن يكون الذي يريد الله هو ما قلتم! ففتحوا باب شرور عظيمة، ولهذا جاءت العبارة الكاذبة: "طريقة السلف أسلم وطريقة الخلف أعلم وأحكم"!. يقول شيخ الإسلام رحمه الله: "هذه قالها بعض الأغبياء" وهو صحيح، أن القائل غبي. هذه الكلمة من أكذب ما يكون نطقاً ومدلولاً، "طريقة السلف أسلم وطريقة الخلف أعلم وأحكم"، كيف تكون أعلم وأحكم وتلك أسلم؟! لا يوجد سلامة بدون علم وحكمة أبداً! فالذي لا يدري عن الطريق، لا يسلم، لأنه ليس معه علم، لو كان معه علم وحكمة، لسلم، فلا سلامة إلا بعلم وحكمة. إذا قلت: إن طريقة السلف أسلم، لزم أن تقول: هي أعلم وأحكم وإلا لكنت متناقصاً. إذاً، فالعبارة الصحيحة: "طريقة السلف أسلم وأعلم وأحكم"، وهذا معلوم. وطريقة الخلف ما قاله القائل: فلم أرد إلا واضعا كف حائر ** على ذقـن أو قارعاً سـن نادم هذه الطريقة التي يقول عنها: إنه ما وجد إلا واضعاً كف حائر ذقن. وهذا ليس عنده علم، أو آخر: قارعاً سن نادم لأنه لم يسلك طريق السلامة أبداً. والرازي وهو من كبرائهم يقول: وأرواحنا في وحشة من جسومنا ** وغاية دنيانــا أذى ووبـال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا ** سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا ثم يقول: "لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلاً ولا تروي غليلاً، ووجدت أقرب الطرق طريقة القرآن، أقرأ في الإثبات: الذي يقول: "إني أتمنى أن أموت على عقيدة عجائز نيسابور" والعجائز من عوام الناس، يتمنى أن يعود إلى الأميات! هل يقال: إنه أعلم وأحكم؟! أين العلم الذي عندهم؟! فتبين أن طريقة التفويض طريق خاطئ، لأنه يتضمن ثلاث مفاسد: تكذيب القرآن، وتجهيل الرسول، واستطالة الفلاسفة! وأن الذين قالوا: إن طريقة السلف هي التفويض كذبوا على السلف! أو الذين قالوا: إن طريقة السلف هي التفويض كذبوا على السلف، بل هم يثبتون اللفظ والمعني ويقررونه، ويشرحونه بأوفى شرح. أهل السنة والجماعة لا يحرفون ولا يعطلون، ويقولون بمعنى النصوص كما أراد الله:
|